بعد الانسحاب الأمريكي من أفغانستان.. موسكو لن تتجاهل قوة “طالبان” (تحليل)

إسطنبول، 19 يوليو (ان ان ان – الأناضول)– اتجهت أنظار الرأي العام العالمي مجدداً إلى روسيا مع زيارة ممثلي حركة “طالبان” إلى موسكو في 9-8 يوليو/ تموز الجاري، في وقت تجددت فيه الاشتباكات مرة أخرى بأفغانستان.

ويعود اهتمام موسكو بأفغانستان إلى عدة قرون، فمع سيطرة روسيا على أراضي الدويلات الصغيرة التي ورثت دولة “ألتين أوردا” أصبحت جارة لآسيا الوسطى ومنطقة القوقاز منذ القرن السادس عشر.

وبدأت روسيا منذ عهد الإمبراطور بطرس الأول (بطرس الأكبر) بالتحرك لفرض سيطرتها على هذه المناطق وسرعت من حملاتها العسكرية على منطقة تركستان مع بدء الإنجليز في الاهتمام بالمنطقة.

وبنفس الطريقة أصبحت أفغانستان أيضا ساحة للصراع بين الإمبراطورتين الإنجليزية والروسية ومرتعاً لـ”المؤامرة الكبرى”.

وأفغانستان مهمة جدا بالنسبة لروسيا، وذلك في مجال أمن الأراضي المجاورة لها والتي ضمتها روسيا لحدودها ولتقليل تأثير القوى الأجنبية في تلك المناطق.

وقد سارعت روسيا السوفيتية للاعتراف بدولة أفغانستان عند إعلانها استقلالها في 1919 وبدأت تأسيس العلاقات الدبلوماسية معها.

ومع تأسيس الاتحاد السوفيتي ثم بدء فترة الحرب الباردة زادت أهمية أفغانستان أكثر من ذي قبل بالنسبة لروسيا.

فقد رأت موسكو كابل “سوقاً جديدة” لتصدير الأيديولوجية و “جسراً” لزيادة تأثيرها في منطقة جنوب آسيا.

ومما يوضح ذلك، الدعم الذي قدمه الاتحاد السوفيتي لأفغانستان خلال الفترة من 1954- 1978 والذي بلغ المليار دولار والعلاقات المتطورة بين الجانبين في المجال العسكري ومجال الطاقة.

وكانت الحركات الثورية ضد الحكومة الأفغانية المقربة من موسكو سبباً في الاحتلال السوفيتي لأفغانستان الذي استمر قرابة 10 أعوام (1979-1988) وانتهى بهزيمة قاسية للروس.

– موضع أفغانستان في السياسة الخارجية الروسية

لم تقل أهمية أفغانستان بالنسبة للكرملين حتى بعد انهيار الاتحاد السوفيتي وعدم بقاء حدود مشتركة بين الدولتين، بل ظلت كابل محتفظة بأهميتها لدى موسكو للأسباب نفسها التي كانت قائمة قبل أكثر من قرن ونصف، وهي الأسباب الأمنية والاقتصادية والرغبة في تقليل نفوذ القوى الأجنبية في المنطقة.

زادت روسيا من تأثيرها وسط آسيا والقوقاز منذ بدايات القرن الواحد والعشرين، لأنها كانت ترى هذه المناطق ضمانة لأمنها الداخلي.

فموسكو ترى أي تدخل بسيط في المنطقة من قبل أطراف خارجية على أنه تهديد لأمنها وتعارض تشكل مناخ “المؤامرة الكبرى” مجدداً، لأن زعزعة الاستقرار في المنطقة من شأنه أن يضر بالأهداف السياسية والعسكرية الروسية والمشاريع الاقتصادية ومشاريع الطاقة التي تنفذها أو تعتزم تنفيذها.

كما أن هناك احتمال لانتقال الاضطرابات إلى داخل حدودها.

وقد لعبت التطورات في الشرق الأوسط وأفغانستان دوراً مهماً في قيام موسكو بتعزيز الوضع الأمني في المناطق القريبة منها.

ويعد السبب الرئيسي في قيام روسيا بإنشاء قاعدة عسكرية لها في طاجيكستان قرب الحدود مع أفغانستان، هو رغبتها في زيادة نفوذها وقوتها بمنطقة وسط آسيا وتقليل نفوذ القوى الأجنبية الخارجية الى الحد الأدنى.

أما السبب الثاني فهو منع سريان مناخ عدم الاستقرار من أفغانستان إلى طاجيكستان ومنها إلى كل منطقة وسط آسيا وحتى داخل روسيا.

ولذلك فإنه مهما رحبت روسيا بالانسحاب الأمريكي من أفغانستان تظل غير راغبة في حدوث حالة من عدم الاستقرار في أفغانستان نتيجة الانسحاب الأمريكي التام ومن ثم انتقاله إلى الدول المجاورة لأفغانستان.

ولعل ذلك هو السبب وراء استقبالها في موسكو مسؤولي حركة “طالبان” التي كانت قد أدرجتها عام 2003 على قائمة المنظمات الإرهابية.

السبب الآخر وراء لقاء روسيا بمسؤولي طالبان هو أن موسكو ترى أن طالبان عادت مرة أخرى بقوة أكبر وفي ظروف أفضل بالتزامن مع الانسحاب الأمريكي من أفغانستان ولذلك فإن تجاهل الحركة ومواصلة الحوار مع الحكومة الأفغانية الحالية فقط يزيد من احتمالات خسارتها في المنطقة.

علاوة على ذلك اتخذت موسكو من خلال هذا اللقاء خطوة مهمة في سبيل أن تصبح أهم قوة تقوم بدور الوساطة في أفغانستان عقب الانسحاب الأمريكي، وهي بذلك تبدد مخاوفها من جهة، ومن جهة أخرى ترسل رسالة للرأي العام العالمي مفادها أن “الولايات المتحدة تسببت في زعزعة الاستقرار وإحداث إضرابات في أفغانستان ثم تركتها ورحلت، كما تفعل في كل مكان، أما روسيا فتضمن جلوس الأطراف معاً إلى طاولة المفاوضات”.

– احتمالات التدخل المباشر

حسنا، هل يمكن أن تتدخل روسيا بشكل مباشر في أفغانستان؟ عند النظر إلى تصريحات المسؤولين الروس والمخاطر التي ينطوي عليها أي تدخل مباشر لموسكو نرى أنه من غير الوارد قيامها بمثل هذه الخطوة.

يعلم المسؤولون الروس أن الانتصار في حرب، في هذه المنطقة الوعرة التي يعرفونها جيداً، أمر بعيد المنال، كما أن الهزيمة التي مُني بها السوفييت واضطرارهم لترك البلاد لم تمحُ بعد من الأذهان. كما أن روسيا غير قادرة حالياً على جبهة جديدة في أفغانستان إضافة إلى سوريا وأوكرانيا.

لذلك سيسعى الكرملين لإقناع الفرقاء الأفغان بالجلوس إلى طاولة المفاوضات؛ لمنع انتقال الأزمة إلى منطقة وسط آسيا.

وكان وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف قد صرح بأن بلاده لن تتدخل في أفغانستان تدخلاً مباشراً، طالما بقيت الصراعات داخل الحدود الأفغانية.

في المقابل، وعد مسؤولو حركة “طالبان” بعدم انتهاك الحدود الطاجيكية. إلا أن الجنود الأفغان والمدنيين الفارين من طالبان، يفرون عبر الحدود الطاجيكية. ويمكن أن يؤدي هذا الوضع وحده خلال الأيام المقبلة لإفشال كل الاتفاقات التي تم التوصل إليها.

وتهتم الصين أيضاً بتطوير علاقات دبلوماسية مع حركة طالبان إذ أن الصراعات في أفغانستان يمكن أن تؤثر سلبيا على مبادرة “الحزام والطريق”.

من ناحية أخرى، أصبح مسؤولو “طالبان” يهتمون أكثر من ذي قبل بالعلاقات الدبلوماسية ويرغبون في أن يراهم العالم كقوة سياسية وليس كمنظمة إرهابية.

وقد طلبت الحركة من روسيا خلال لقاءاتها في موسكو أن تدعمها في مجلس الأمن الدولي من أجل رفع اسمها من قائمة العقوبات. وهذا يدل على أن صراع طالبان على السلطة سيكون بأسلوب مختلف هذه المرة رغم استمرار الاشتباكات المسلحة. علاوة على ذلك تدرك حركة طالبان أن أي حرب جديدة يمكن أن تؤدي إلى تدخل خارجي جديد في أفغانستان.

حتى الآن تسير التطورات على نحو يرضي موسكو. فالولايات المتحدة تنسحب من أفغانستان والمباحثات بين الفرقاء الأفغان مستمرة وخلال هذه المرحلة ستقوم موسكو بدور الوساطة، وستتمكن بفضل هذا الدور من تحقيق مكاسب في أفغانستان أمام الولايات المتحدة وأمام الصين.

هناك بعد آخر للتطورات في أفغانستان بالنسبة لروسيا يتعلق بدول وسط آسيا.

فمع بدء الاشتباكات في أفغانستان بدأت على الفور لقاءات بين المسؤولين في روسيا ونظرائهم في أوزبكستان وطاجيكستان بخصوص الموضوع. الأمر الذي يعد مؤشراً على أن التعاون العسكري بين روسيا وجمهوريات وسط آسيا سيستمر وسيتطور أكثر.

وفي حال استمرار الاشتباكات وانتقالها إلى طاجيكستان ستقوم موسكو بخطوات في سبيل حماية جمهوريات وسط آسيا وسيزداد احتياج هذه الدول لها، وبالتالي زيادة تأثيرها ونفوذها في المنطقة.

في النهاية، فإن أي تطورات في أزمة أفغانستان، وحتى التطورات التي حدثت حتى الآن يمكن أن تتسبب في تعزيز التعاون بين روسيا ودول وسط آسيا وخاصة التعاون العسكري، حتى أنها يمكن أن تؤدي إلى تأسيس قواعد عسكرية روسية جديدة في عدة دول بالمنطقة.

شبكة أنباء عدم الإنحياز – س.ج

Related Articles